احمد محمد- مراقب عام
- عدد المساهمات : 966
نقاطك : 27132
سمعتك بالمنتدى : 1
تاريخ التسجيل : 21/12/2009
العمر : 28
الموقع : مخيم العروب
من طرف احمد محمد السبت فبراير 13, 2010 5:29 pm
الصخــــور
كنت أنا وصديقي أسامة، نطوف في أرجاء كَرْمنا الحبيب، تداعبُ وجوهَنا الأنسامُ وترقص أمامنا الظلالُ، وتغمزنا الشمسُ من خلال الغصون.. كنا نسير فرحين، نحني ظهورنا تحت عناقيد العنب المتدلّية، ونشقُّ طريقنا بين الأغصان المثقلة بالثمار..
وصلْنا إلى آخر الكرم، وقعدْنا في الظلّ، عند الحجارة المرصوفة، نستعيدُ ذكرياتٍ قديمة.. هذه الحجارة المكسورة، كانت -فيما مضى- صخوراً كبيرة، تربضُ على صدر أرضٍ بائرة، فتكتمُ أنفاسها، وتحجبُ كنوزها، فعاشتِ الأرضُ في حزنٍ دائم، وهمٍّ مقيم، لأنها تملكُ الخير، وتعجز عن العطاء!
وعندما اشترى والدي الأرضَ، وشرعَ يعالجُ صخورها، بالمعول والمطرقة والعَتَلَة، و.. سخرَتْ منه الصخورُ الصلبة، وقالت في نفسها: -يا للعجب. رجل ضعيف نحيف، يبتغي قهر الصخور! انهمك والدي في العمل، ودارَتْ رحى الحرب، بينه وبين الصخور.. وكان وحيداً في المعركة، يقاوم صخوراً كثيرة، تحتلُّ أرضه، وتأبى الرحيل.. ثبتَ والدي في المعركة، وبذلَ العرقَ والدمِ.
الشمسُ تكويه بحرارتها، والصخورُ تجرحه بشظاياها، وهو ماضٍ فيما عزم، لا يضعفُ ولا يتراجع.. انكسرتِ الصخورُ، ولم تنكسرْ عزيمته.
في تلك الأيام، كنتُ أزورُ والدي، كلّما انصرفْتُ من المدرسة، حاملاً إليه طعاماً، لا يأكله إلا الفقراء، وذات مرة، نظرْتُ إلى والدي، وهو يأكلُ الخبزَ الأسمرَ، والبصل، وقلت له محزوناً:
-لماذا نحن فقراء؟!
مدّ والدي يده، ومسح بكفّهِ على رأسي، وقال:
-سأطردُ الفقرَ عنكم يا بني!
-بأيّ شيء ستطرده؟
-بيديّ هاتين
-متى؟
-عندما أُخرجُ كنوزَ الأرض.
قلت بائساً:
-أرضنا لا تحوي كنوزاً بل صخوراً!
قال والدي باسماً:
-الكنوز مدفونة تحت الصخور.
في أحد تلك الأيام، صحبْتُ صديقي أسامة، وذهبنا إلى والدي، وحينما اقتربنا منه، سلَّمنا عليه، فرفع رأسه، ورحَّبَ بنا مسروراً، وقطراتُ العرق، تلمعُ على جبينه، مثل حبّاتِ اللؤلؤ..
لقد كان يعمل في أرضٍ بلا ظلّ!
مسح عرقه بكمّهِ، وألقى المعول من يده، وقال:
-لِنسترحْ قليلاً.. لم يبق سوى هذه الصخرة.
سأله صديقي:
-ماذا ستفعل بها؟
-سأحطّمُ رأسها العنيد، كالصخور الأخرى.
-هل حطمْتَ صخوراً غيرها؟
ضحك والدي، وقال له:
-انظر إلى تخوم الأرض.
نظر أسامة إلى حيث أشار والدي، فشاهد سياجاً كبيراً، من حجارة مكسورة..
فتح عينيه مدهوشاً، وقال:
-هل كانت هذه الحجارة كلُّها في الأرض؟!
-كانتِ الأرضُ مغروسة بالصخور، ولكنّهُ غرسٌ لا يثمر! ونهض والدي إلى الصخرة، يأتيها من هنا، ويأتيها من هناك، تارة يحفر تحتها بالمعول، وتارة ينهال عليها بالمطرقة، فيتطايرُ الشررُ منها، وتنكسر أطرافها، ويصغر رأسها الكبير، شيئاً فشيئاً..
وبعد جهد جاهد، اقتلع والدي رأسَ الصخرة، وجعل يدفعه بيديه، ويدحرجه نحو طرف الأرض، فبادرْتُ أنا وصديقي إلى مساعدته، وأخذْنا ننقل حطامَ الصخرة..
وحينما فرغنا من العمل، وقف والدي مرفوع الهامة، يرنو إلى أرضه الحبيبة،
مزهواً بانتصاره العظيم.
كانت عيناه تومضانِ سروراً، وعرقه يومض فرحاً. لقد تحرّرتِ الأرض، واندحرَتِ الصخور..
امتلأْتُ إعجاباً بوالدي، فقد كان أقوى من الصخر، وبعد ذلك.. حرث والدي الأرض، وحفر فيها حفراً كثيرة، أودعَ فيها غراساً صغيرة، وأصبح يعتني بها ويرعاها، فصارتِ الغراسُ تنمو وتترعرع، وبعد بضعة سنين، ازدانت أرضنا بالأشجار، وبدأتْ تجود بالثمار، فأخذْنا نملأ منها السّلالَ الكبيرة، ونبيعها في المدينة، ونشتري بثمنها ما نحتاج ونريد.. لقد وفى والدي بوعده، فاستخرج كنوز الأرض، وطرد الفقر بيديه، و..
تعالى صوت والدي، يدعونا إليه..
أسرعْتُ أنا وصديقي، وجلسنا معه، في ظلٍّ ظليل، نأكل مما قطف لنا، من ثمار حلوة يانعة..
قلت مسروراً:
-ما أطيبَ ثمارَ العنبِ والتين!
نظر أسامة، إلى كفِّ والدي الخشنة، وقال:
-ما أطيبَ ثمارَ العمل!
قال والدي:
-لولا العمل، لظلّتْ هذه الثمار مدفونة تحت الصخور!
الأمـــــيرة والــمرآة
كان في قديم الزمان، أميرةٌ شريرة، قبيحةُ المنْظر، خبيثة المَخْبر، تكرهُ الناسَ وتنهرهم، وتسخر منهم وتحقرهم، فكرهها كلُّ مَنْ عرفها، وخافها خدمها وحشمها، بسبب عجرفتها، وسوء خلقها.. وكان لها أعوانٌ وعيون، يخالطون الناسَ متنكّرين، ثم يرجعون إليها، بأخبارهم وأسرارهم، وحينما تسمع ما يتناقلونه عنها، يلتهبُ قلبها حقداً، ويتطاير غيظها شرراً، فلا يجرؤ أحدٌ، على الاقتراب منها، أو النظر إلى وجهها..
وفي إحدى الأمسيات، كانت جالسة، في شرفة قصرها، ومرآتها في حجرها، فنادَتْ وصيفاتها، فهرعْنَ إليها مذعوراتٍ، ومثلْنَ بين يديها مطرقات، ينتظرْنَ عقاباً أو توبيخاً.
شرعَتِ الأميرةُ المغرورة، ترنو إليهن بازدراء، ثم شمختْ بأنفها، وقالت:
-أصحيحٌ ما يقوله عنّي الناس؟
-ماذا يقولون؟
-يقولون: أنف الأميرة كبير، لكثرةِ ما تشمخ به!
-الأنف الكبير، لا يعيبُ صاحبه.
غضبَتِ الأميرةُ، ورفعَتْ سوطها، تلوِّحُ به مهدِّدةً. وتقول:
-أتوافقْنَ الناسَ، على ما يقولون؟!
رمقَتِ الوصيفاتُ السوطَ. وقلْنَ في نفوسهن:
-حسِّني أخلاقكِ، وليكنْ شكلكِ ما يكون.
قالت الأميرة حانقة:
-ما لكنَّ ساكتات؟!
-أنفكِ صغيرٌ يا سيّدتي!
-لا تكذبْنَ!
-اسألي المرآة، فهي لا تكذب.
تناولَتِ الأميرةُ المرآة، وشرعَتْ تحملقُ إلى أنفها، فقالت لها المرآة:
-أنفكِ كبيرٌ، لكثرة ما تشخمين به.
اغتاظتِ الأميرةُ، وأظلمَ وجهها، فقلبَتِ المرآة، وصمتَتْ واجمة، ثم رفعَتْ رأسها، وقالت:
-ويزعم الناسُ أنّ لساني سليط، وطويل كالسوط!
-إنهم يكذبون!
-وكيف أعرف الحقيقة؟
- اسألي المرآة، تعرفي الحقيقة.
رفعتِ الأميرة مرآتها، وقرّبَتْها من وجهها، ثم دلعَتْ لسانها، وجعلَتْ تنظر إليه..
قالت لها المرآة:
-لسانكِ سليط، وطويل كالسوط.
أرجعتِ الأميرةُ لسانها، وقالت وهي تتميَّزُ غيظاً:
-ويزعم الناسُ أنني شبْتُ وكبرت!
-ما زلتِ صبيّةً يا سيّدتي!
-قلْنَ الحقيقة، ولا تخفْنَ
-المرآة تقول لكِ الحقيقة.
رفعتِ الأميرةُ المرآة، وصارت تتأمَّلُ وجهها وشعرها.. لم تخفِ المرآةُ منها، بل قالت لها:
-وجهكِ أعجف، وشعركِ أشيب.
غضبتِ الأميرةُ على المرآة، وضربَتْ بها الأرض، فتكسّرتْ وتبعثرَتْ..
وقامتِ الأميرةُ مسرعة، ودخلَتْ قصرها، وهي تصرخ:
-المرآة كاذبة، المرآة كاذبة!
انحنَتْ إحدى الوصيفات، وأخذتْ تجمع أشلاءَ المرآة، وحينما فرغَتْ من جمعها، نظرَتْ إليها محزونه، وقالت:
-لقد ماتتِ المرآةُ، ولم تقلْ إلاّ الحقيقة!
الأميرة العمياء!!
حملت الأميرة الفانوس بيدها اليسرى، والعصا بيدها اليمنى، وأقسمت أن لا يهدأ لها بال حتى تقتل كل المنافقين في مملكتها الصغيرة، بعد أن وصلتها أخبار نفاقهم الذي فاحت رائحته، وأصبح يبعث على الاشمئزاز والقرف.
فقد أصبحوا يعيقون عجلة التطور بالمملكة الوادعة، نتيجة ازدياد أعدادهم وتنوع وتلون أقنعتهم، والواجب يحتم عليها أن تخلّص المملكة من أخطارهم التي تبدو للعيان، وللوهلة الأولى صغيرة، أما في حقيقة الأمر فهي أخطار جسيمة.
انطلقت في كل الاتجاهات بحثاً وتنقيباً إلى أن أعياها البحث وأضناها التنقيب.. فالخوف والحذر دبّا في أوصال المنافقين الذين بدؤوا يحذر بعضهم بعضاً حتى أن الأميرة لم تستطع أن تلقي القبض ولو على منافق واحد، فالشوارع والساحات التي كانت بالأمس تعجّ بهم أصبحت اليوم خالية، كانت تسمع بين الحين والآخر أصواتاً بشرية بعيدة، مشوشة، ومبهمة وغير مفهومة، وكانت تسمع بعض الأصوات الوديعة والهادئة والبريئة تخاطبها باحترام وتتمنى لها التوفيق في مهمتها هذه التي شاع خبرها في أرجاء المملكة بسرعة البرق.
سألت الأميرة نفسها مراراً ما هو سرّ هذا الاختلاف العجيب في أصوات الناس؟!. لماذا لا تكون كل أحاديث البشر صادقة ومفعمة بالبراءة والطيبة وحب الخير؟ لاسيما وأن البشر جميعاً يرجعون في انتمائهم إلى الأب آدم والأم حواء عليهما السلام.
ومن كان حديثه نفاقاً كان ضعيف الشخصية، مهزوزها، لا خير فيه ولا أمل منه، ولا ثقة بأقواله.
كادت الأميرة تفقد ثقتها بصحة ما سمعته عن المنافقين وأعدادهم المتزايدة فأيام وليالي البحث انتهت بلا جدوى.
قالت في نفسها: النفاق لا يدرّس في المدارس، ولا في الجامعات ولا يمزج مع أي نوع من أنواع الطعام، حتى الحليب إذا افترضنا أنه ينقل مع حليب بعض الأمهات، وهذا افتراض خاطئ، فالكثير من الأطفال في عصرنا لا يرضعون حليب أمهاتهم.. بل يتناولون حليباً مجففاً أو غير مجفف من حليب الأغنام والماعز والأبقار الخ.. الخالي من أي نوع من أنواع النفاق البشري الوراثي. كما أنه أي النفاق لا يستورد كما تستورد البضائع الأجنبية من الخارج. وهو ثقيل بحد ذاته حتى أن أية ريح تعجز عن نقله، فمن أين يأتي هذا الداء إلى مملكتنا؟
كانت رغبة الأميرة كبيرة بأن تكون مملكتها نظيفة وخالية من المنافقين لذا بدأت تقنع نفسها بأن المعلومات التي وصلتها ما هي إلا محض افتراء، وافترضت أن النفاق الذي يتحدثون عنه قد يكون عدوى حملتها ريح عاتية من بلاد بعيدة حطت ورحلت على الفور عن مملكتها. بعد أن اصطدمت بنفوس سكان المملكة الأباة الذين احتقروها وطردوها وبعد أن وجدت أن المناخ هنا غير مناسب، والتربة غير صالحة.
كادت الأميرة تطير فرحاً، فخطر النفاق غير موجود، وما سمعته لا يتعدى محض افتراء، أو عدوى لم يكتب لها البقاء والانتشار. وإن حقدها وحملتها على المنافقين لا مبرر لهما. وعزمت أمرها على أن لا تصدّق أي حديث تسمعه من اليوم فصاعداً في هذا المجال. بعد أن تأكدت وبتجربتها من أن الجو صافٍ لا غيوم فيه ولا عواصف.
فجأة انطفأ الفانوس، وسقطت العصا من يد الأميرة، التي كانت تدّب الرعب في أوصال المنافقين الحذرين والمراقبين لكل خطوة خطتها الأميرة والذين سارعوا لارتداء ثياب الحمل الوديع. وأعلنوا الطاعة، وبدؤوا يمسحون الجوخ ويقبلون الأيادي كما يقال كل حسب خبرته ومعرفته من لحظة ابتداء حملتها ضدهم حتى باتت تظن أنهم أشبه بمعشر الملائكة، ومن طينة غير طينة البشر.
ما أن انطفأ الفانوس وسقطت العصا حتى وبسرعة البرق سرق أقرب المنافقين من الأميرة العصا وبدأت الأصوات تتعالى والنبرات تزداد حدة وقساوة بعضها يطالب بقطع اليد التي كانت تهددهم وتحمل العصا، وأخرى تطالب بسجن الأميرة مع الأشغال الشاقة، وثالث يطالب بإعدامها بحجة أنها كانت تشكل خطراً حقيقياً على جيش المنافقين.
كان ذلك درساً لكل من حمل وهو أعمى العينين على النفاق وأهله.
نهاية منافق
في ليلة دامسة من ليالي شتاء عرف بشدة برده وكثرة أمطاره وثلوجه. جرفت مياه سيل عارم جرذاً إلى مسافات بعيدة عن جحره، كاد اندفاع الماء الغزير يقضي على الجرذ لولا أن اعترضت مجرى السيل صخور كثيرة ذات أحجام وأوزان مختلفة، أعاقت اندفاعه مما أتاح للجرذ فرصة النجاة حيث وجد نفسه فجأة داخل وكر يحوي بقايا أطعمة. كاد أن يبدأ بقضمها لولا أن التعب والإعياء والنعاس حالت دون ذلك.
في ساعة متأخرة من تلك الليلة دخل الثعلب وكره فوجد الجرذ يغط في سبات عميق، كان الثعلب جائعاً، لكنه وعملاً بنصيحة أمه التي حذرته مراراً من أكل الجرذان خصوصاً، والحيوانات التي اختارت المجاري القذرة مسكناً لها عموماً. امتنع عن أكل الجرذ مردداً في نفسه: كم كان رائعاً لو كان هذا الدخيل ديكاً حبشياً أو أرنباً بريّاً، أو دجاجة سمينة، إذاً لأسكت عصافير بطني في هذه الليلة الحالكة التي ينطبق عليها القول الذي كانت تردده عجائزنا دائماً: "ليلة لا يعوي ديبها". أما هذا القبيح فماذا أفعل به؟ رائحته كريهة ومنظره يبعث على الاشمئزاز والقرف.
ركل الثعلب الجرذ النائم بقدمه ركلة قوية أيقظته مرعوباً، وما إن فتح عينيه حتى تناوله بضربة أخرى على رأسه كادت تدميه.
كان هدف الثعلب من فعله هذا معاقبة الجرذ على تجرئه على دخول وكره من جهة، ودبّ الرعب في قلبه من جهة ثانية.
كان الثعلب منذ زمن طويل يحلم أن يكون لـه حارس أمين على باب وكره ينبهه لأي خطر قد يداهمه، ويتنمر عليه ويطبق عليه كل حيله الجديدة. ويشعر بينه وبين نفسه أنه قوي، ذكي، محتال، سريع الحركة، إلى جانب أن وجود الحارس علامة على الأهمية، وعلو الشأن، فوجد ضالته المنشودة في الجرذ الذي لا يدري ماذا يمكن أن يطلق عليه اسم: المحتل، الدخيل، الضال طريقه، الزائر بلا دعوة، ولا موعد مسبق الخ.
بعد الضربة الأولى والتي بثّ فيها الثعلب هيبته، ومخافته في قلب الجرذ، ضمن أن هذا الأخير لن يخالفه في أمر مهما كانت الظروف. فبادر وعرض عليه أن يكون حارسه، وهو بدوره يؤمن لـه ما يحتاجه من غذاء وحماية.
أفرح هذا العرض قلب الجرذ، فالمكان الآمن للنوم موجود، والطعام سيؤمنه سيده الثعلب. وما عليه إلا أن يكون الخادم والحارس الأمين.
قبل أن يستلم الجرذ مهام منصبه الجديد، ويبدأ مزاولة أعماله بحراسة سيده الثعلب، كان هذا الأخير يستقبل بين الحين والآخر زواره، وأصحاب القضايا المحتاجين لمشورته ومساعدته. أما الآن فالجرذ أتقن فن التعامل مع حيوانات الغابة. إذ كان نادراً ما يسمح للمظلومين المتظلمين برؤية سيده. بل ولا حتى الزوار الأقل مرتبة، إذ كانوا بحاجة إلى انتظار طويل حتى ينالوا شرف مقابلة الثعلب، فالزيارات والمقابلات يجب أن تتم بمواعيد مسبقة. ولأهداف وغايات تعود بالنفع والفائدة على الثعلب بالدرجة الأولى، وعلى حارسه بالدرجة الثانية.
أَمَّا أن يستقبل الثعلب زواراً لحلّ مشاكلهم أو مساعدتهم في حلّها دون مقابل أو منفعة أو مصلحة، فكان الجرذ يعرقل مثل هذه الزيارات وبالتالي يحول دونها.
الثعلب كما هو معروف عنه محتالاً، ذكياً، فهم رغبة الجرذ في الأكل. فكان يحضر لـه طعاماً زائداً عن حاجته، تحسنت صحة الجرذ وزاد وزنه كثيراً، كان يعلل ذلك بالوقار، وبأن ضخامة الجسد علامة من علامات الغنى والنعمة، كان يحرص على سماع أخبار الحرج كل يوم وينقلها إلى سيده الثعلب، وكان يمطره بعبارات التفخيم والإطراء قبل وبعد كل وجبة طعام. كان يؤكد لـه كل يوم أنه وحده زعيم هذا الحرج وحتى الأحراج المجاورة. وهو وحده الذي يملك حارساً على باب وكره. وقد يكون زعيم الغابة المطلق في المستقبل وأن وحوش الغابة كلهم يخافونه ويحسبون لـه ألف حساب.
الثعلب يعلم جيداً إمكاناته، ومع ذلك ينعشه الإطراء أحياناً وكم من مرة رأى في منامه أنهم نصبوه زعيم الغابة المطلق. وعندما يستيقظ يفسر حلمه هذا أنه نتيجة تكرار الجرذ على مسامعه أنه الزعيم الذي لا يشق لـه غبار.
إلا أنه لم ينسَ الرعب الذي دبّ في أوصاله عندما رأى ذات يوم وعلى مسافة بعيدة نمراً من نمور الغابة يتجه نحوه، وكيف طار هلعاً ورعباً من الزعيم الحقيقي. فالثعلب يدرك أن الزعامة تمنحها الحياة للزعماء الحقيقيين. لا جرذ منافق أمضى عمره في أنفاق الأرض وفي أماكنها القذرة. ولم ير نمراً واحداً في حياته. أو يلتقي وحشاً كاسراً من وحوش الغابة.
ذات يوم قرر الثعلب التخلص من الجرذ المنافق. دعاه لنزهة في الهواء الطلق، بعيداً عن مكان إقامتهما، كان فرح الجرذ كبيراً، إذ سيسير بمحاذاة الثعلب. ولربما اعتبرا نفسه نداً له. وما إن اقتربا من فوهة بئر عميقة حتى ركل الثعلب الجرذ بقدمه ركلة قوية، وجد الجرذ نفسه على أثرها في أعماق البئر. وقبل أن ينطق الجرذ بأية كلمة وقف الثعلب وقال له:
أمضيتُ عمري في الاحتيال والخداع. وكنت أحياناً أنتقد نفسي لهذا الطبع الذي رافقني منذ الولادة. والذي ابتليت به طوال عمري، ولسوء حظي ابتليت بك أيها المنافق. أم أنك تظن أيها الأبله أنني أثق بكلامك المعسول الذي كنت ستقوله لأي ثعلب آخر، شريطة أن يطعمك ويدبّ الرعب في أوصالك.
ومع ذلك اطمئن فسأخرجك من الماء حالما أصبح زعيماً للغابة كما كنت تقول لي دائماً.
ذهب الثعلب غير آسف على جرذ امتاز بالنفاق. ودأب على وضع نفسه في غير مكانها الحقيقي. وحال بين الثعلب وبين المحتاجين لمساعدته ومشورته من أبناء جنسه، وعلى التفوّه بكلمات المديح والإطراء التي لا تحمل من الحقيقة شيئاً.
أنين الكتاب
هاجس خفي بدأ ينقر على مكامن الاطمئنان لدى الجدّة رغم قناعتها بأن إجابتها كانت كافية لتبديد مخاوف حفيدها عندما قالت له: أبوك ذهب باكراً إلى عمله، وأُمّك لم تستيقظ بعد من نومها، وأبواب منزلنا محكمة الإغلاق فمن أين جاء الأنين في قاعة المكتبة؟.
خافت الجدة أن يكون حفيدها مريضاً فبدأت تتلمس جبهته مرة تلو الأخرى، حمدت ربها لأن حرارته طبيعية، سألته إن كان يشعر بألم في رأسه أو تعب في بدنه أو جوع أو رغبة بالنوم وأي نوع من الطعام يريدها أن تحضرْ له؟
أجاب الحفيد بالنفي على أسئلة جدته فهو لا يشعر بألم أو تعب وليس لديه رغبة في النوم أو الطعام ومع ذلك بقيت الجدة في حيرة من أمرها.. الصغير لم يحدّث والدته بعد استيقاظها بما حدث لقناعته بأن جوابها لن يكون بأفضل من جواب جدته. إنما رغب في إخبار والده فهو يحبه كثيراً، ويعتبره مثله الأعلى. ما إن سمع الأب ما قاله صغيره حتى انهال بأسئلته على زوجته: هل حرارة ماجد كانت عالية ولماذا لم تستدعوا الطبيب؟.. الخ.
الأُم والجدة أكدتا معاً أن ماجد لم يشكُ من شيء وأنّه تناول طعامه بشهيته المعهودة وأنّ نومه كان هادئاً وهو نشيط طوال النهار.
في صباح اليوم التالي دخل ماجد أكثر من مرة إلى قاعة المكتبة متأملاً ومندهشاً من أعداد الكتب الكثيرة التي تكاد تنوء لثقلها رفوف المكتبة في حين كانت جدته وأُمه تراقبانه بحذر شديد.
لكنه لم يطرح عليهما أي سؤال وهما بدورهما قررتا عدم سؤاله كي لا تثبتا فكرة الأنين في ذهنه. أملاً بأن يكون قد نسيها.
كان الأب قلقاً، وجل تفكيره بما سمعه من ابنه البارحة ولم يخطر بباله أنّ الصغير استوحى فكرة الأنين من درس معلمته عن أهمية الكتاب وفوائده، وأن هذا الأخير يتألم إذا بقي في المكتبة مهملاً، وأنّ الكثير من الكتب يوضع في المكتبات للزينة وإشباع الغرور ليوحي للآخرين بأن سكان هذا المنزل من أصدقاء الكتاب. الصغير ماجد يرى بأُمّ عينه أنّ مكتبتهم ضخمة، وأن لا أحد يقرأ هذه الكتب وأن أباه يفتح أبواب المكتبة ونوافذها ليراها زوارهم وأن بعضهم يقف أمامها مذهولاً لضخامتها. قال في نفسه:
كلام معلمتي ينطبق على مكتبتنا والكتب لدينا حتماً تتألم. لن يهدأ لي بال حتى أقرأ مستقبلاً هذه الكتب.
ما إن اجتمعت الأسرة على طاولة العشاء حتى توجه ماجد إلى والده قائلاً: أسمع أنيناً آتياً من قاعة المكتبة يا أبت.
الأب: هذا مستحيل، القاعة لا تحوي إلا الكتب، والكتب خرساء لا تتكلم ولا تعرف الألم أو الأنين.
الصغير: أصوات الكتب أقوى الأصوات، لماذا لا تسمعون أنين مكتبتنا أم أنكم لا ترغبون.
الأب: اصدقني يا ولدي، أتسمع أنيناً أم تتصور وتتخيّل هذا أَم أنك مريض؟.
الصغير: شرحت لنا معلمتنا عن دور الكتاب وأهميته وأنه يتألم إذا أُهمل.
أثنى الأب على صغيره لإصغائه الجيد لدرس معلمته ولما يحمله من حبّ للكتاب نبع المعرفة، وأقرّ بينه وبين نفسه أنّ الكتب وجدت لقراءتها والاستفادة منها لا لعرضها والتباهي بها.
يتبععععععععععععععععععععععععععععععععععع